بوابة الصعيد
الإثنين 15 ديسمبر 2025 مـ 08:52 مـ 24 جمادى آخر 1447 هـ
بوابة الصعيد
رئيس التحريرطارق علي
شيخ الأزهر رئيس مجلس حكماء المسلمين يهنِّئ جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة بمناسبة اليوم الوطني الـ54 لمملكة البحرين وزير قطاع الأعمال العام يشهد تسليم الدفعة الأولى من ميني باص ”نصر ستار ” الفاتورة الإلكترونية البنك الزراعي المصري يُعلن عن انضمام أحمد حبلص لقيادة مجموعة الخزانة والمؤسسات المالية جهاز تنمية المشروعات يتعاون مع محافظة قنا لتطوير التكتلات الحرفية ورفع تنافسيتها وزير الخارجية ونظيره السعودي يتابعان التطورات في قطاع غزة تصدير أول شحنة من الفحم البترولي المكلسن الهيئة العامة للاستثمار تشهد توقيع عقد بين السويدي للتنمية الصناعية للعام الثاني على التوالي… بنك مصر يحصد جائزة أفضل بنك في مصر في مجال التمويل العقاري من مجلة يوروموني العالمية البنك التجارى الدولى يطلق برنامج تمكين المرأة في قطاع الأعمال بالتعاون مع EBRD وزير السياحة والآثار يشهد إزاحة الستار عن تمثالين للملك أمنحتب الثالث، بعد ترميمهما بمعبده الجنائزي بالأقصر قوات الدفاع الشعبي والعسكري وجامعة الأقصر تنظمان زيارة ميدانية لقيادة الفرقة 15 دفاع جوي

حضور سوهاج في الحضارة المصرية القديمة

تُعد محافظة سوهاج من أعرق مناطق صعيد مصر وأغناها بالآثار والشواهد التاريخية التي تؤكد عمق جذورها في الحضارة المصرية القديمة.
وقد ارتبط اسمها بمواقع مهمة ومدن كبرى لعبت أدوارًا محورية في نشأة الدولة المصرية القديمة، وفي تطور الفكر الديني والسياسي والفني عبر العصور الفرعونية.
ولم يكن حضور سوهاج في صفحات التاريخ حضورًا هامشيًا، بل كان حضورًا فاعلًا ومؤثرًا، جسّد استمرار الحضارة وتطورها على ضفاف النيل في قلب الجنوب المصري.

** الموقع الجغرافي ودلالته الحضارية:

يقع إقليم سوهاج في منتصف صعيد مصر تقريبًا، وهو ما منحه موقعًا استراتيجيًا بين مراكز الحكم القديمة في طيبة (الأقصر)، ومراكز التجارة في أسيوط ومنف.
هذا الموقع جعل منه منطقة تفاعل حضاري وثقافي، حيث التقت فيها الطرق التجارية والجنائزية المؤدية إلى الصحراء الغربية وإلى وادي النيل الأوسط.
كما أتاح هذا التوسط الجغرافي تبادل التأثيرات بين الدلتا والجنوب، وهو ما انعكس في تنوع الطرز المعمارية والنقوش الفنية المكتشفة في مواقعها الأثرية.

** أبيدوس العاصمة الدينية ومهد العقيدة الأوزيرية:

تُعد مدينة أبيدوس (العرابة المدفونة) من أهم مدن سوهاج وأشهرها عالميًا.
فقد كانت منذ أقدم العصور مركزًا مقدسًا، وقد أضحت مزارًا قوميًا يتجه إليه المصريون القدماء من مختلف الأقاليم ليقدموا القرابين ويحيوا طقوس "الاحتفال بأوزيريس" التي كانت تمثل محور الديانة المصرية القديمة.
ومن أبرز آثارها معبد سيتي الأول ومعبد رمسيس الثاني، اللذان يمثلان ذروة الفن والنقش في الدولة الحديثة. وتضم جدرانهما نقوشًا فريدة، منها "قائمة ملوك أبيدوس" التي تُعد سجلًّا رسميًا لتاريخ الحكم في مصر القديمة، إذ دوّنت أسماء ستة وسبعين ملكًا منذ نارمر حتى سيتي الأول.

** أخميم — مدينة الحرف والفنون:

عرفت أخميم في العصور الفرعونية باسم خمينو، وسماها الإغريق لاحقًا بانوبوليس.
وكانت مركزًا من مراكز الإبداع الفني والحرفي في مصر العليا، وقد اشتهرت بورش النحت وصناعة التماثيل والمنسوجات الفاخرة، وبرز فيها الفنانون والنحاتون الذين شاركوا في تشييد المعابد الكبرى في طيبة ومنف.
ومن أبرز الآثار المكتشفة بها تمثال مريت آمون ابنة رمسيس الثاني، الذي يُعد من أضخم التماثيل المنحوتة في الحجر الجيري في الصعيد. كما تُعد مقابر النبلاء والكهنة في جبانة أخميم من أهم المصادر التي توثق الحياة اليومية والدينية والاجتماعية في تلك الفترة.

** العرابة المدفونة ومراكز الدفن الملكي:

تؤكد الدراسات الأثرية الحديثة أن منطقة العرابة المدفونة كانت في عصور ما قبل الأسرات مقرًّا لدفن ملوك الأسرات الأولى، مثل نعرمر وجر ودن، الذين أسسوا نواة الدولة المصرية الموحدة. ويمثل هذا الموقع مرحلة انتقالية بين المعتقدات البدائية الأولى ونظام الدفن الملكي المنظم في عصر الأسرات.
وقد كشفت البعثات الأثرية عن مقابر ملكية مبنية بالطوب اللبن تحتوي على أمتعة جنائزية ونقوش رمزية تمهد لظهور العقيدة الأوزيرية لاحقًا، مما يضع سوهاج في صدارة المشهد السياسي والروحي لمصر القديمة.

** أعلام سوهاج في الحضارة القديمة:
من أهم أعلام سوهاج في العصور القديمة الملك مينا موحد القطرين الذي ارتبط بسوهاج كـ مسقط رأسه في قرية «نجع الطينة» بمركز جرجا، وكان موطن حكمه قبل توحيد البلاد ونقل العاصمة إلى منف، ولهذا يظهر الملك مينا في شعار المحافظة مرتدياً التاج المزدوج.
وكذلك الملك "رمسيس الثاني" الذي شيّد معبده في أخميم، بالإضافة إلى ابنته الملكة "ميريت آمون" ،التي وُجد لها تمثال ضخم في أخميم.
والملكان يويا وتويا: والدَا الملكة "تي" ،زوجة الملك أمنحتب الثالث ووالدة أخناتون. حيث وُجدت مقابر لهم في أخميم.

كما تذكر النقوش والبرديات أسماء عدد من الكهنة والكتبة والفنانين الذين ارتبطت أسماؤهم بأبيدوس وأخميم، وكان لهم دور بارز في الحياة الدينية والإدارية والفنية. ومن هؤلاء:

- الكاهن الأكبر عنخ-إف الذي خدم في معبد أوزيريس في عصر الدولة الوسطى، وكان من أوائل من نظموا الطقوس الأوزيرية.
- النحات بتاح-حتب من أخميم الذي ورد اسمه على أحد نقوش الدولة الحديثة، وكان مسؤولًا عن زخرفة قاعات معبد رمسيس الثاني.
- كما تشير برديات المتاحف الأوروبية إلى أسماء نساء من أخميم اشتهرن في صناعة النسيج الكتاني المزخرف الذي صُدّر إلى المعابد الملكية.

** التواصل الحضاري من العصر الفرعوني إلى العصور اللاحقة:

تميزت سوهاج بقدرتها على الحفاظ على هويتها الحضارية عبر العصور. فالمعابد الفرعونية في أبيدوس وأخميم أعقبتها الأديرة القبطية في الدير الأبيض والدير الأحمر اللذين أسسهما الأنبا شنودة رئيس المتوحدين في القرن الخامس الميلادي، ثم المساجد والمدارس الإسلامية في العصور اللاحقة.
هذا التسلسل التاريخي المتصل يجعل من سوهاج لوحة حيّة لتطور العقيدة والفكر والفن المصري عبر أربعة آلاف عام.

** أهمية سوهاج في الدراسات الأثرية المعاصرة:

تُعد مواقع سوهاج الأثرية اليوم من أهم ميادين البحث الأثري في صعيد مصر.
إذ تتواصل فيها أعمال البعثات المصرية والدولية التي تكشف سنويًا عن معابد ومقابر جديدة، مثل مقابر العمال في العرابة المدفونة، ونقوش مقابر الدولة الوسطى في جبل الهوى. والاكتشافات الأثرية الحديثة في أخميم والمنشاة .
كما يُعد متحف سوهاج القومي من أبرز المشاريع الثقافية الحديثة التي تعرض لتاريخ الإقليم منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الإسلامي.

إن دراسة حضور سوهاج في الحضارة المصرية القديمة تكشف عن حقيقة جوهرية، وهي أن هذه الأرض لم تكن مجرد إقليم تابع، بل كانت مركز إشعاع روحي وفني وعلمي، أسهم في صياغة هوية مصر الحضارية. فبين معابد أبيدوس وأخميم، ومقابر العرابة المدفونة، وورش الحرفيين القدماء، تتجلى عبقرية الإنسان المصري الذي صاغ من تراب الجنوب مجدًا خالدًا لا تبهت ألوانه مع الزمن.
وهكذا تبقى سوهاج، قديمًا وحديثًا، رمزًا للحضارة المتجذرة في أعماق الأرض، وللروح المصرية التي ما زالت تُبدع وتبني وتصنع الأمجاد جيلا بعد جيل.